رافقت الدعوة المحمدية من مهدها العديد من المعجزات الدالة على صدق المبُلّغ عن الوحي، وكان أعظمها على الإطلاق القرآن الكريم، إلا أنه لا يمكن لمنصف تجاهل باقي المعجزات، والتي تمثلت في سلسلة مضيئة من الأفعال الخارقة للعادة والأقوال الغيبية, شاهدها الصحابة الكرام واقعاً حياً يتحقق أمام أعينهم, وتلمس صدقها اللاحقون في تحقق النبوءات التي أخبر عن وقوعها الحبيب ? بعد وفاته؛ لتظل عبارته الخالدة حية فعالة ( أنا النبي لا كذب ) وكأنه لم يقذف بها في وجه هوازن فقط بل وفي وجه الدنيا بأسرها.
قال تعالى: ( عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا*إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(
الجنّ:26ـ27 ، قال القرطبي: قال العلماء ـ رحمة الله عليهم ـ :لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم, وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير, بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه، وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج أتلقاهم والقمر في العقرب؟ فقال رضي الله عنه : فأين قمرهم وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم (1).
إخباره ? عن غيبيات كبَتَ بها المشركين والمنافقين:
منها ما حدث ليلة الإسراء كما رواه ابن هشام في السيرة حيث يقول:" فلما خرج رسول الله ? إلى الناس أخبرهم فعجبوا, وقالوا: ما آية ذلك يا محمد، فإنا لم نسمع بمثل هذا قط، قال: آية ذلك أني مررت ببعير بني فلان بوادي كذا وكذا, فأنفرهم حس الدابة, فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام, ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت ببعير بني فلان فوجدت القوم نياماً ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان, وآية ذلك أن عيرهم الآن يصوب من البيضاء ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء. فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول إلا الجمل كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءاً ماءً ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه ولم يجدوا فيه ماء, وسألوا الآخرين وهم بمكة، فقالوا: صدق والله لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر وند لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه " (2)
إعلامه ? صحابته بموت أشخاص لم يكونوا وقتها بالمدينة:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ? نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات (3)، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي ? نعى زيداً وجعفراً وبن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: " أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم " (4)
إخباره ? بأسرار الأحاديث:
فعن عروة قال: لما رجع المشركون إلى مكة من بدر وقد قتل الله تعالى من قتل منهم, أقبل عمير بن وهب حتى جاء إلى صفوان بن أمية في الحجر، فقال صفوان: قبح الله العيش بعد قتلى بدر, فقال عمير: أجل والله ما في العيش خير بعد, ولولا دين علي لا أجد له قضاء وعيالي ورائي لا أجد لهم شيئاً لدخلت على محمد فلقتلته إن ملئت عيني منه, فإن لي عنده علة, أقول: قدمت على ابني هذا الأسير, ففرح صفوان بقوله فقال: علي دينك وعيالك أسوة عيالي في النفقة إن يسعني شيء ونعجز عنهم, فحمله صفوان وجهزه بسيف صفوان فصقل وسم، وقال عمير لصفوان: اكتمني ليالي, فأقبل عمير حتى قدم المدينة, فنزل باب المسجد وعقل راحلته وأخذ السيف لرسول الله (، فنظر إليه عمر بن الخطاب وهو في نفر من الأنصار يتحدثون عن وقعة بدر ويشكرون نعمة الله, فلما رأى عمر عمير بن وهب معه السيف فزع منه, فقال: عندكم الكلب هذا عدو الله الذي حرش بيننا وحرزنا للقوم, فقام عمر فدخل على رسول الله ? فقال: هذا عمير بن وهب قد دخل المسجد معه السلاح فهو الفاجر الغادر يا رسول الله لا تأمنه, قال: " أدخله علي", فدخل عمر وعمير على رسول الله ?، فقال له ?: " ما أقدمك يا عمير". قال: قدمت في أسيري عندكم فقاربوني في أسيري فإنكم العشيرة والأهل, فقال رسول الله ?: " فما بال السيف في رقبتك؟". فقال عمير: قبحها الله من سيوف، فهل أغنت عنا من شيء؟! أنا نسيته وهو في رقبتي حين نزلت ولعمري إن لي غيرة. فقال رسول الله ?: " اصدقني ما أقدمك", قال ما قدمت إلا في أسيري, فقال رسول الله ?:" فما شرطت لصفوان بن أمية الجمحي في الحجر" ففزع عمير وقال: ماذا اشترطت له؟ قال: " تحملت له بقتلي على أن يعول بنيك ويقضي دينك". والله حائل بينك وبين ذلك, فقال عمير: أشهد أنك رسول الله وأشهد أنه لا إله إلا الله, كنا يا رسول الله نكذب بالوحي وبما يأتيك من السماء, وإن هذا الحديث الذي كان بيني وبين صفوان في الحجر لم يطلع عليه أحد غيري وغيره, ثم أخبرك الله به فآمنت بالله ورسوله والحمد لله الذي ساقني هذا المقام، ففرح المسلمون حين هداه الله، وقال عمر بن الخطاب (: لخنزير كان أحب إلي منه حين اطلع ولهو اليوم أحب إلي من بعض بني " (5).
إخباره ? بشؤون بعض المعارك:
كقصة أسر خالد للأكيدر ملك دومة الجندل قال ابن هشام: ثم إن رسول الله ? دعا خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة وهو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكاً عليها وكان نصرانياً، فقال رسول الله ? لخالد:"إنك ستجده يصيد البقر" فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفي ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ يقال له حسان فركب وخرجوا معه بمطاردهم [ رمح قصير يطارد به الوحش ] فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله ? فأخذته وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله ? قبل قدومه عليه (6).
ظهور الفتن بعد قتل عمر:
فعن حذيفة أن عمر بن الخطاب ( قال: أيكم يحفظ قول رسول الله ? في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ كما قال: قال هات إنك لجريء، قال رسول الله ?: " فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر", قال: ليست هذه ولكن التي تموج كموج البحر. قال يا أمير المؤمنين: لا بأس عليك منها إن بينك وبينها باباً مغلقاً, قال: يفتح الباب أو يكسر؟ قال: لا بل يكسر. قال: ذاك أحرى أن لا يغلق. قلنا: علم عمر الباب. قال: نعم كما أن دون غد الليلة إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط فهبنا أن نسأله وأمرنا مسروقا. فسأله فقال من الباب؟ قال عمر(7) والأمر مشهور في أن الفتنة بين المسلمين وقعت بعد موت عمر، أما الردة فلم تكن فتنة بين المسلمين وإنما كانت كفراً بالإسلام حاربه المسلمون وهم يد واحدة.
الصلح على يد الحسن رضي الله عنه :
فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله ? على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول:" إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "(
فهذه نبوءة عن انقسام وفرقة وصلح بواسطة الحسن، وقد كان الانقسام بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه ، وجرت الدماء ثم أصلح الله الحال عندما تنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة وحقن دماء المسلمين.
الفتوحات:
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال بينا أنا عند النبي ? إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل, فقال: " يا عدي هل رأيت الحيرة؟" قلت: لم أرها, وقد أنبئت عنها, قال: " فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله", قلت: فيما بيني وبين نفسي؟: فأين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد. " ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى", قلت: كسرى بن هرمز؟ قال:" كسرى بن هرمز, ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولن له: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى. فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى, فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم"، قال عدي سمعت النبي ( يقول: " اتقوا النار ولو بشقة تمرة فمن لم يجد شقة تمرة فبكلمة طيبة ". قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز, ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم ( يخرج ملء كفه … "(9)
قال البيهقي: قد وقعت الثالثة في زمن عمر بن عبد العزيز ثم أخرج عن عمر بن أسيد عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً والله ما مات عمر حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله نتذكر من نضعه فيهم فلا نجد فيرجع بماله قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس(10).
إنها النبوة ولا شئ غير ذلك (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(
الكهف:29 ، إنها النبوة التي دلتنا - بما أخبرتنا عنه من بعض الغيوب - أن لصاحبها منزلة عظيمة عند الله، ولولا ذلك ما ظهر في كلامه ? آثار علم الله المحيط في الماضي والحاضر، وما انكشفت تلك المساحات من المستقبل أمامه ? بتعليم الله تعالى له، فعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.